الجمعة، 14 فبراير 2014

ديمقراطيتنا المترنحة بين اللفظ والمعنى


الديمقراطية لفظ اثير حوله جدل كثير، واختلف في تفسير معناه الفلاسفة والمفكرون والمثقفون ورجال الدين. ولقد لبست كثير من الأنظمة الأستبدادية والأحزاب السياسية “المؤدلجة وغير المؤدلجة” عباءة الديمقراطية، واسترسلت بأسمها في ممارسة الظلم والصلف والتسلط والكبت وإنتهاك الحقوق ومصادرة الحريات “مستخفة” بكينونة الأنسان ومنظومة المشاعر والأحاسيس والقيم الأخلاقية والجمالية الكامنة في داخله. فالديمقراطية نتاج فلسفي من نتائج تطور المجتمعات الأنسانية عبر العصور، وثمرة حضارية من ثمرات نضال الشعوب من اجل إنتزاع حقوقها المغتصبة.
 
فالفطرة البشرية تأبى حياة الذل والمهانة، وهي محرك حيوي يدفع الأنسان للمجاهرة والمطالبة بحقوقه بصورة سلمية. ولقد تعلمنا من دروس التاريخ أن الشعوب الحية قد تلجاء إلى إستخدام العنف والقوة من اجل نيل حريتها وحقوقها وهي على إستعداد أن تسقي نبتة الحرية بدمائها، وتحرص على نمو شجرة الديمقراطية كي يستظل تحت اغصانها المظلومين والمضطهدين. فالديمقراطية كلمة ذات اصل يوناني تعني “سلطة الشعب” اي حكم الشعب لنفسه عن طريق اختيار حكامه. ولقد مارس الأغريق هذه النظرية في أثينا واسبرطة وهي تعبر اليوم عن النظام السياسي والأقتصادي في العالم الغربي.

تنظر الكثير من الشعوب اليوم إلى النظام الديمقراطي نظرة تفاؤل، وترى فيه حلاً لأزماتها السياسية، وبلسماً يداوي جراحها المثخنة بالظلم والأستعباد. وهناك علاقة وثيقة بين الديمقراطية العادلة بشعارها: ” وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” وإستتباب الأمن، وهما العنصران الأساسيان اللذان يتم بهما الوصول إلى الأستقرار السياسي والنمو الأقتصادي. وهذان الأمران لا يمكن أن يتحققا على الوجه الصحيح إلا إذا تمتعت سلطة القضاء بالأستقلالية عن نفوذ وهيمنة بقية السلطات. فالأستقرار والنمو يساهمان فى المحافظة على إستقلالية القرار الوطني وتحرير إقتصاده من التبعية. ومتى تحقق الأستقرار واتضحت الرؤية يصبح بالأمكان ممارسة “الشورى” او “الديمقراطية” بسلاسة ويسر. فالهدف هو إقامة العدل وتحقيق السلم الأهلي من دون تضييع الجهد والوقت في محاولة معرفة ايهما اتى اولاً “الدجاجة وللا الدحية” بحسبي ان كلاهما له مذاق لذيذ ويعطيان الطعام نكهة رائعة.

وقد يتسأل سائل: هل الديموقراطية التى نطمح اليها تمثل “معتقداً” يعتنق ام “الية” تتحقق بها اهداف نبيلة سامية؟ وهل ثقافة وحضارة الليبيين اليوم تؤهلهم لممارسة الديموقراطية ام هم جزء من مجتمعات متخلفة تعيش على هامش الحضارة لا تفقه ابجديات الشورى ولاتكترث بمعانيها؟

يدرك الجميع أن الديمقراطية ليست قطعاً من الحلوى يتم إستيرادها معلبة من وراء البحار بخلطة تناسب مذاقنا، كما أنها ليست ثياباً تفصل على مقاسنا. فالديمقراطية ثقافة “محلية” منبعها اخلاقيات وقيم المجتمع تؤصل بمبداء قبول الأخر والحرص على التعاون معه من اجل منفعة مشتركة تعود على الوطن بالخير والأستقرار والأمن والسعادة والرخاء.

الديمقراطية هدف لا يمكن تحقيقه على يد فرد مستبد، لكنها ممارسة جماعية وتطبيق شامل لمبداء الشورى من دون هجاءِ ونعيق. فمن لا يكفل للأخر حقه في التعبير عن افكاره وارائه بحرية، ومن يضيق صدره من مبداء تداول السلطة سلمياً عبر صناديق الأقتراع هو نسخة مكررة لدكتاتور “كذاب اشر” لايحترم إرادة الشعب ولا يقدر حجم تضحياته. وهنا تأتي اهمية وعي المجتمع بالمفاهيم والمصطلحات حتى لا يتم خداعه مرة اخرى على يد سماسرة السياسة. إذاً الديمقراطية وسيلة تمكن المواطنين من إختيار حكامهم وممثليهم، ونمط حكم حضاري ينظم شئون المجتمع على اسس واطر قانونية دستورية. وسيظل وعي”المواطن” دائماً هو الفيصل والعامل الفاعل الذى يؤثر فى إنجاح هذه المهمة الحضارية.

لأبد من الأعتراف هنا ان الديمقراطية “المثلى” عملية يتطلب الوصول اليها وقتاً طويلاً إلا أن وضع اللبنات الأولى وبصورة صحيحة تقيم بناءً شامخاً عتيداً. فالديمقراطية ليست مصطلح غريب على الليبين او تعريف دخيل على القاموس السياسى الليبي، بل هي “ديناميكية” سطرها اجدادنا فى مبادئى دستور حضارى قبل نصف قرن ونيف من الزمان، وطبقوها بقدرٍ “متواضع” قبل جريمة العسكر الشنعاء فى سبتمبر 1969.

اليوم وقد تهاوى الصنم الأكبر، وتم كسر إستبداده، وطويت برحيله صفحة التخلف السياسى … والظلم الأجتماعي … والقهر النفسي يُنْصَحُ كل من يريد أن يتولى امر الناس، ويسوس شئونهم إدراك “حقيقة” أن الشعوب قد “تصبر” لكنها ليست “بميتة”. فمحاولات فرض الأستبداد بممارسة الدجل السياسي تحت فوهة البندقية، وعدم الرضوخ والأنصياع لرغبات الشعب وإرادته، ورفض القبول بعملية التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الأقتراع ستجعل مؤخرة من يمارسها في مرمى “كاتشوات” الجماهير الغاضبة.

قد يقول قائل ان قيم الأسلام لا تقر ولا تتوافق مع المبادئى الأساسية للديمقراطية. ما اراه أن هذا الأدعاء تزييف للتاريخ ومحاولة تشويه سمجة لهذه الحضارة التي اسهمت وتُسْهْمُ في بناء الأنسان وتعمل على ضمان حريته. فالأسلام تميز بمنهجية متفردة تحقق التوازن بين متطلبات الحياة الدنيا والحياة الأخرة. فأن كانت الديمقراطية تعنى تمكين الشعب من تولى زمام امره، وتأكيد حقه فى إختيار وعزل ومسألة قيادته السياسية، ووسيلة حضارية تُسَهٍلُ عملية التداول السلمي للسلطة فيما بين المكونات السياسية للمجتمع دون المساس بجوهر العقيدة فهى بالتأكيد نمط حضارى يقره الأسلام قبل غيره. فالعبرة بالغايات وجلب المصالح وليس بالجمود والتكلس حول لفظ لغوى لا يتم الغوص في اغواره لمعرفة المقاصد التي يحملها بين طياته. يبدو اننا في حاجة اليوم “لتعريف” لمسميات بصورة ادق حتى يسهل معها فهم “الدال والمدلول”، وتحديد المعنى والغايات بصورة تبدد الشكوك وتريحنا من مسألة تأويل النيات.

تحدثنا روايات صدر الأسلام ان نقاشاً حميمياً دار بين الأمام على ونجله الحسن (رضى الله عنهما) حول مفهوم الشورى ومن هم المكلفون بها. وقد خلص الأمام (كرم الله وجهه) الى ان كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار هم “وحدهم” اهل الحل والعقد المناط بهم امر الشورى، غير ان ابنه (رضى الله عنه) رأى خلاف ذلك. فقد تنبه الأمام الحسن (رضى الله عنه) الى ان الدولة الأسلامية قد اتسعت رقعتها، وتباينت لغات اهلها، وتعددت اجناس مواطنيها ولم يعد من مكوناتها “فقط” اولئك الرجال السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين تعارفوا فى ساحات الدعوة والجهاد بل اصبحت دولة تضم في جنباتها اقواماً من “الطلقاء” والعرب والعجم الذين لم تصقلهم التجربة، ويسكنها خليط من امصار متباينة الثقافات والفنون والعادات والتقاليد. لهذا رأى الأمام الحسن (رضى الله عنه) ان منظومة اهل “الحل والعقد” يجب أن تتسع دائرتها لتضم إلى جانب السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ممثلى الأمصار والأقاليم المختلفة. ويعد طرح الأمام الحسن طرحاً حضارياً منفتحاً إستنبطه من قرأته لواقع وتركيبة المجتمع الأسلامى الجديدة. فلقد لاحظ ببصيرته أن هناك مستجدات تفرض نفسها في الساحة السياسية الأسلامية مما يتطلب تبنى اليات واساليب تتلائم مع الثوابت والمتغيرات، وتتناسب مع تغير ظرفي الزمان والمكان. الية حضارية فرضها (فقه الواقع) تم من خلالها “تطبيق” حكم الشرع، وروعى فيها “حصول” المنفعة، وهذا التصور ليس “معتقداً جديداً” يغير من جوهر وروح الدين الأسلامي كما يظن المتنطعون والخوارج، لكنه إنفتاح وتطور فكري يستوعب المتغيرات “الأيجابية” في المجتمع ويُحْسِنُ التعامل معها.



امين الهوني

0 تعليقات:

إرسال تعليق