الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

المصالحة...الحق المغلوب والنقلة النفسية المطلوبة



ثورة 17 فبراير علمتني عظمة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وشجاعته في تحقيق العفو والصفح وكسب القلوب وتجفيف منابع المعارضة المحاربة، وعلمتني أيضاً أن العفو والصفح لا يستطيعه إلا الرجال أصحاب الخصال الكريمة. كنا نقرأ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لقومه "أذهبوا فأنتم الطلقاء"، قراءة عابرة دون قياس مدى صعوبتها ولا صعوبة جعلها واقعاً ملموساً تتقبله النفس البشرية بسهولة ويسر. هذا الأمر لا شك يتطلب شجاعة لا يستطيعها إلا من تعلم خُلق العفو والصفح ومآلاته من مشكاة النبوة. بهذا الإعلان استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقق السلم الإجتماعي يكبح فيه روح الإنتقام وتكسب به القلوب. بهذه النقلة النفسية أجبر الرسول صلوات ربي وسلم عليه قومه على إحداث نقلة نفسية مماثلة، فاسلموا جميعاً واتجهوا مباشرة لقطف ثمار هذا الخُلق النبيل.

وفي حالة جنوب افريقيا وبعد أن انهكتهم سياسة التفرقة العنصرية سنين طويلة قام رئيسها دي كليرك بخطوة شجاعة. لقد كانت شجاعة رجلٌ مثل دبليو دي كليرك بمثابة يقظة بعد غفلة وحرص بعد تفريط فقال، تسعة أيام قبل إطلاق سراح الزعيم نلسون مانديلا في فبراير 1990، أمام البرلمان "لقد آن الأوان لكي نخرج من دائرة العنف نحو السلام والمصالحة". الرجل، بعد أن وصل إلى طريق مسدود، علم أن مصلحة وطنه ومواطنيه تكمن في إحداث نقلة نفسية شجاعة بعد تجربة مريرة اثبتت مساويء سنين الظلم والقهر والاستبداد. السود انفسهم بقيادة الزعيم نلسون مانديلا أحدثوا نقلة نفسية متميزة في طي صفحات الألم واستبدالها بصفحات الأمل، فلم ينتقموا وساروا في أعظم عملية سلام عرفها العصر الحديث.

لاشك أن عقودا أربعة من الاستبداد تحمل في طياتها قائمة سوداء من الجرائم المختلفة التي قام بها النظام السابق واتباعه. ولاشك ايضاً أن هناك قائمة سوداء أخرى سجلت بعد تحرير البلاد. ثورة 17 فبراير نجحت في اسقاط نظام مستبد لكنها لم تنجح حتى الآن في قيام دولة العدل ودولة القانون التي ضحى من أجلها شبابنا. روح الانتقام والتشفي والتشنج سادت في النفوس وساد معها القتل والسجن والتعذيب والخطف والاغتيال والعبث بالمال العام.

إذاً نحن بحاجة إلى نصرة الحق بتحقيق الصلح والتصالح وبإحداث نقلة نفسية نوعية تنقل البلاد كل البلاد، وتنقل المواطنين كل المواطنين من شفا جرف هار من دوران الانتقام وبث الكراهية ونشر الفوضى إلى عالم يسوده الأمن ويعمه الاستقرار ويحذوه الأمل. هذه النقلة النفسية هي عبارة عن انتقال الانسان من حالة التخلف والفوضى إلى حالة مواجهة الحقيقة المرة بكل شجاعة وجسارة.

صاحب العدد والعدة أو المنتصر عليه أن ينتبه إلى أهمية النقلة النفسية المطلوبة منه فيجلس بكل شجاعة مع من هو دون ذلك يقر ويواجه افعاله بكل شجاعة ويقر بكامل أخطائه التي ارتكبها في حق المهزوم. يبدئ إستعداده لمواجهة تبعات أعماله واستعداده ايضاً لجبر الضرر الناتج عن هذه الأعمال قبل فوات الأوان. كما أن الطرف المقابل بحاجة إلى نقلة نفسية تستوعب الحاجة إلى قبول الواقع المر، الذي ساهم فيه، والناتج عن الاستبداد الذي احتاج إلى عملية استئصال معقدة نتج عنها إنهيار كامل لكل مؤسسات الدولة مع ما ترتب من حصاد مر للعقود الأربعة فنشأ فيها إنسان مشوه مليء بالعاهات والأحقاد والعقد والأمراض جعلته يقدم على مثل هذه الأعمال المقيته.

هذه النقلة النفسية تتطلب أيضاً أن نتعامل مع الوضع الحالي كمشكلة يشارك في حلها كل الشعب الليبي بعيدأ عن معادلة المنتصر والمنهزم. فكما ذكرت في مقال سابق فإن التحديات التي تواجه الشعب الليبي كثيرة ومترابطة ومعقدة ومتشابكة وبحاجة عند مواجهتها إلى جهود جميع أفراد الشعب الليبي بدون إستثناء. علينا جميعاً أن نتجاوز هذه المحنة بنقلة تمكننا من الإنسحاب من براثن المعارك الوهمية إلى حقيقة المعارك مع التحديات الخطيرة التي تهدد الوطن بأكمله.

ففي المجال الاقتصادي يعد الاقتصاد الليبي غير متنوع ويعتمد على ريع النفط بالدرجة الاساسية، كما أن هناك ظاهرة البطالة المتصاعدة بنوعيها المقنعة والمكشوفة وهناك الفقر والتفاوت في الدخول وهناك بنى أساسية متهالكة وتغول القطاع العام على القطاع الخاص وانتشار الفساد ووجود مستوى عالى من الأمية وضعف مساهمة الشباب والمرأة في مناحي الحياة المختلفة وهناك تخلف في مؤشرات التنمية المستدامة وضعف في الانتاج العلمي والثقافي.

وفي المجال السياسي والأمني نجد ليبيا التي تحدها العديد من الدول الآهلة بالسكان ولديها مشاكل حدودية لم يتم ترسيمها بالكامل حتى الآن. وهناك امتدادات جغرافية لبعض المكونات العرقية والثقافية للمجتمع الليبي وبعض الدول المجاورة تمر بنفس الوضع التي تمر به ليبيا أو أنها تعاني من عدم الاستقرار منذ فترة طويلة.

كما أن توطين مواطنين من دول الجوار في الجنوب الليبي وهجرة العديد من أهل الجنوب إلى الشمال الليبي لأسباب متعددة، ساهم في أن يمر الجنوب الليبي بمرحلة أمنية خطيرة تهدد الوطن بأكمله. يضاف إلى كل هذه المشاكل، مشاكل نتجت عن أحداث الثورة، مثل إنتشار الاسلحة والكتائب التي تحولت إلى مراكز إقتصادية ووجود السلاح تحت يد المجرمين الجنائيين الذين أطلق سراحهم النظام السابق وغيرها من المشاكل بين المدن والقبائل والتي كانت من موروثات النظام السابق ونتاج حرب التحرير.

هذه التحديات وغيرها تتطلب تحقيق الغلبة للحق بنقلة ينتج عنها تحقيق المصالحة الوطنية العادلة التي تمكن هذا الوطن من مواجهة هذه التحديات. هذه النقلة النفسية تحتاج إلى إرادة من قبل المؤتمر والحكومة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وشيوخ القبائل ووسائل الاعلام وقادة الرأي العام وكل الشخصيات الوطنية الصادقة. هذه الإرادة يجب أن تترجم في حوار لا يقصى أحداً ولا يسثنى موضوعاً، وينتج عن هذا الحوار آليات حل النزاع وجبر الضرر وتحقيق العدالة ومد جسور العلاقات بين المتخاصمين.

هذه النقلة هي تحقيق الغلبة للحق وانتصار له. هذه النقلة استطاع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مجتمع تملؤه الكراهية وروح الانتقام إلى مجتمع متراحم ومتلاحم. هذه النقلة تحلى بها ايضاً قادة جنوب افريقيا فساهمت في نقل المجتمع المتحارب إلى مجتمع متصالح يتحمل جميع ابنائه مسئولية قيادته وبناءه ونحن اليوم في ليبيا في أمس الحاجة إلى هذه النقلة التي ينتصر فيها الصلح والتصالح ويستشعر فيها الجميع أهمية رتق النسيج الاجتماعي وإصلاح ذات البين من خلال حوار شامل يحقق العدل والمصالحة التي يشارك في صناعتها المجتمع بأسره، والتي من شأنها أن تساهم في تحقيق تنمية اقتصادية قادرة على مواجهة التحديات وقادرة على تحقيق الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي.



عبدالرزاق العرادي

0 تعليقات:

إرسال تعليق